مراحل توطد الإسلام في بلاد التكرور في غرب أفريقيا

الإسلام في بلاد التكرور


 

أتت أول إشارة على دخول الإسلام إلى غرب أفريقيا من مملكة غانه التي امتدت آنذاك من السنغال شمالا إلى حدود غانا الحالية ونيجيريا جنوبا، وذلك كما يصفها لنا الجغرافي الأندلسي "أبو عبيد البكري" في القرن الخامس الهجري، إذ روى في كتابه أن الدولة الأموية أرسلت جيشا إسلاميا لفتح بلاد السودان "الغربي" في صدر الإسلام، وقد استقر جنود من هذا الجيش في بلاد غانه وحملوا الإسلام إلى أهلها. وكذلك أكَّد المؤرخ المصري "القلقشندي" في القرن الثامن الهجري هذه الحقيقة بقوله: "وكان أهلها قد أسلموا في أول الفتح"[3].

 

يبدو أن هذه المناطق التي دخلها الفاتحون الأولون كانت تقع في الأجزاء العليا لنهرَي النيجر والسنغال حاليا، وحين أرسى الإسلام جذوره وقواعده في هذه المنطقة، كان لأهلها من قبائل الفولاني والبامبرا والسوننكي الدور الأعظم في أخذ زمام الدعوة إلى الإسلام بين أبناء مناطقهم في السودان الغربي والأوسط كما عُرفَت آنذاك، اللتين نعرفهما اليوم بـ"الصحراء الأفريقية" و"غرب أفريقيا".

 

ذكر الجغرافي "البكري" الذي زار بعض هذه المناطق في منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي أن ملك مملكة "غاو"، التي تقع اليوم في شمال مالي وكانت عاصمة إمبراطورية "صونغاي" حينئذ، كان مسلما، وأن سكان غاو كانوا لا يُولُّون غير المسلم زمام الحكم في بلادهم، لكن نسبة كبيرة من سكان مملكته دانوا بأديان وثنية، بل ذكر البكري أن أغلبية شعب تلك المملكة كانوا من عبدة الأصنام.

 

أما مملكة التكرور التي تكوَّنت من مناطق تقع اليوم في جنوب موريتانيا ومالي ومناطق شمال السنغال، فقد اعتنق ملكها "ورجابي بن رابيس" الإسلام عام 1040م/432هـ، ورأى المؤرخ "ديفيد ليفينغستون" (1872م) أن إسلام مملكة التكرور سبق قيام دولة المرابطين على يد داعيتها الكبير "عبد الله بن ياسين"، وأعظم أمرائها "يوسف بن تاشفين" (500هـ)، وقد تحالفت مملكة التكرور الإسلامية فيما بعد مع المرابطين، كما أسهم ملوك تلك المملكة وسكانها في نشر الإسلام بدرجة كبيرة في المناطق التي حولهم، وكانوا أول من قاموا بمسيرات جماعية بقوافلهم من الغرب الأفريقي إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج[4].

 

ذكر الكثير من المؤرخين، وعلى رأسهم العلامة "ابن خلدون"، أن شعوب مالي صارت تدين بالإسلام بحلول القرن السابع الهجري، لا سيما في عهد ملكها الشهير "منسا موسى" (1337م)، أشهر وأغنى ملوك الإسلام في غرب أفريقيا، وهو صاحب أعظم كنوز العصور الوسطى، وهو أيضا أشهر ملك أفريقي أدى فريضة الحج منطلقا من تمبكتو -عاصمته- مارَّا بالصحراء الكبرى حتى وصوله إلى القاهرة بصحبة الآلاف من أتباعه وأهل مملكته. في رحلته تلك، صرَف "منسا موسى" أطنانا من الذهب الخالص ابتغاء وجه الله، وتحمل نفقات الآلاف من أبناء مملكته في مسيرة حجِّه تلك، فضلا عن هداياه السخية، حتى إنه اضطر في عودته من مكة إلى الاقتراض من بعض أغنياء التجَّار في مصر، وعلى رأسهم "سراج الدين بن الكويك الإسكندري"[5].

 

زار الرحالة الشهير "ابن بطوطة" بعد ذلك التاريخِ مناطقَ واسعة من غرب أفريقيا، وعلى رأسها تمبكتو وما حولها في مالي اليوم، في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، ووجد الإسلام قد استوطن هذه البلاد، حتى إنه احتاج إلى بعض الذرة ليتقوَّى به على سفره في أثناء رحلته قرب تمبكتو؛ فنزل عند أميرها، وروى عن رحلته قائلا: "ووجدتُ عنده كتاب المدهش (في الزهد والأخلاق) لابن الجوزي، فجعلتُ أقرأ فيه"[6]، ولا يدل ذلك على تجذر الإسلام فحسب، بل وعلى وصول الكثير من مصنَّفاته وعلومه إلى أهل تلك المناطق.

 

وقبل ابن بطوطة بثلاثة قرون، حين زار الرحالة الأندلسي "أبو عبيد البكري" مملكة غانه في الجنوب الغربي سنة 460هـ/1067م، تكلم عن وجود مسلمين بأعداد كبيرة في هذه المملكة، وأن ملك غانا واسمه "تنكامين" آنذاك "كان محمود السيرة محبا للعدل" كما يصفه، وأن مملكته تكوَّنت من حاضرتين أو مدينتين كبيرتين، ثم أردف البكري قائلا: "إحداهما المدينة التي يسكنها المسلمون، وهي مدينة كبيرة فيها اثنا عشر مسجدا أحدهما يجمعون فيه، ولها الأئمة والمؤذِّنون والراتبون، وفيها فقهاء وحمَلة علم"[7].

 

لا شك أن موقع غانه على الحدود الجنوبية للصحراء (موريتانيا وجنوب المغرب) جعلها حلقة اتصال بين الشمال والجنوب، وكان لتحكُّمها في الطرق المؤدية إلى مناجم الذهب، وهو عُملة العصور الوسيطة، وما فرضته من ضرائب على الصادرات والواردات، أثر في ثروتها الهائلة واستقطاب التجار المسلمين إليها من كل حدب وصوب، والذين تحكَّموا بمرور الوقت في تجارة منطقة غرب أفريقيا وغانه، وأقاموا علاقات وثيقة بملوكها وأشرافها، ومع ذلك كانت جيوش غانه الجرارة التي أحصاها الرحالة البكري بـ200 ألف مقاتل مصدرا للهجمات الدائمة على قبائل الملثَّمين المسلمين الذين انضووا آنذاك تحت لواء دولة المرابطين الوليدة، ما يشي بتعقّد العلاقات السياسية والعسكرية التي لم تَخْلُ من تنافس على السيطرة رغم الاشتراك في أواصر الإيمان وروابط التجارة.

 

يرجع الفضل الكبير في دخول الإسلام وانتشاره إلى مناطق واسعة من غرب أفريقيا أو السودان الغربي مثل مالي وغانا والسنغال وغيرها إلى مجهودات دولة المرابطين ورجالاتها الأوائل، وعلى رأسهم الأمير "أبو بكر بن عمر اللمتوني"، الذي عمل على التوسُّع في هذه المناطق ونَشْر الإسلام وتوطين الدعاة بين قبائلها في منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، فقد ظل هذا الأمير المرابطي يفتح بلاد غانه على مدار 14 عاما متواصلة، حتى أتمَّ فتحها سنة 469هـ/1076م تقريبا[8]، وامتدت تلك المملكة آنذاك من جنوب موريتانيا اليوم حتى حدود نيجيريا، ومن المؤسف أن المصادر التاريخية المرابطية لم تقف على هذه الفتوحات الهائلة والمهمة كما وقفت على تفاصيل فتوحات وحضارة المرابطين في المغرب والأندلس، فتركت لنا غيضا موثَّقا من فيض حكايات الإسلام وأهله وثقافته في تلك الأراضي المتاخمة للسودان والمغرب العربي.

 

لم يكن الأمراء والجنود وحدهم من نالوا شرف نشر الإسلام بطول الصحراء الكبرى وعرضها، بل أدى التجار المسلمون والمتصوفة أيضا أعظم الأدوار في نشر الإسلام، حتى باتت أهم الحواضر التجارية في غرب أفريقيا التي يؤمها التجار المسلمون مراكز للدعوة ونشر الدين الحنيف، مثل مدينتَي جني وتمبكتو في مالي، وحتى مدينة كانو في نيجيريا اليوم. ومن أهم الأدوار التي أداها التجار المسلمون، لا سيما الأغنياء منهم، أنهم تكفَّلوا بإحضار واستقدام العلماء والفقهاء إلى هذه المناطق لتكثير عدد المسلمين فيها، ثم تولي هؤلاء العلماء تعليم الناس أمور دينهم، كما عمد بعض التجار إلى تشييد المدارس والمساجد، واختاروا أفذاذ الطلاب من السكان الأصليين لإرسالهم إلى المعاهد الإسلامية الشهيرة في مصر أو الشمال الأفريقي حتى عادوا أئمة لأقوامهم وأهليهم[9].

 

وإذا كان التجار والعلماء قد أدوا دورا عظيما في نشر الإسلام من هذه الجهة، فإن الصوفية الذين آثروا الزهد والفقر على الانغماس في ملذات الحياة والتجارة أدوا أيضا دورا أساسيا ومحوريا في نشر الإسلام والدعوة إليه في غرب أفريقيا. فقد اهتم التجار بنشر الإسلام في الحواضر والمدن المركزية الاقتصادية في غرب أفريقيا، بيد أن الصوفية لم يقفوا عند هذه الحواضر بقدر ما اهتموا بالقرى والقبائل النائية في الصحاري والغابات منذ العصر الوسيط حتى يومنا هذا، بل ووقف هؤلاء الصوفية أمام محاولات التوسع الأوروبي حين ظهرت أولى إشاراتها في القرن التاسع عشر، وبرز منهم -على سبيل المثال- الحاج "عمر الفوتي التكروري"، الذي انتمى إلى الطريقة التيجانية الشهيرة والمتوفى سنة 1864م، هذا ولا تزال الطريقة التيجانية ذات شأن وانتشار واسعَين بمنطقة الصحراء الكبرى إلى اليمن[10].

 

 

 

 

مراحل توطد الإسلام في بلاد التكرور في غرب أفريقيا مراحل  توطد الإسلام في بلاد التكرور  في غرب أفريقيا بواسطة محمد حامد on يناير 20, 2022 Rating: 5

ليست هناك تعليقات

مدون محترف